فصل: تفسير سورة يوسف عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (113- 115):

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
وقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ...} الآية: الرُّكُون: السُّكون إِلى الشيْء، والرضا به، قال أبو العالية: الركُونُ: الرِّضَا. قال ابنُ زَيْد: الرُّكُون: الادهان.
قال * ع *: فالركون يقع على قليلِ هذا المعنَى وكثيرِهِ، والنهْيُ هنا يترتَّب من معنى الركُونِ على المَيْلِ إِلَيهم بالشِّرْك معهم إِلى أقلِّ الرُّتَبِ مِنْ ترك التَّغْيير عليهم مع القُدْرة، و{الذين ظَلَمُواْ} هنا: هم الكَفَرَة، ويدخُلُ بالمعنى أَهْلُ المعاصي.
وقوله سبحانه: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار...} الآية: لا خلاف أنَّ {الصلاة} في هذه الآية يرادُ بها الصلواتُ المفروضةُ، واختلفَ في طرفَيِ النَّهار وزُلَفِ اللَّيْل، فقيل: الطَّرَف الأوَّل: الصُّبْح، والثَّاني: الظُّهْر والعَصْر، والزُّلَف: المغرب والعشاء؛ قاله مجاهد وغيره، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ: «هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ» وقيل: الطَرَفُ الأوَّل: الصبحُ، والثاني: العصر؛ قاله الحسن وقتادة، والزُّلَف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول، بل هي في غيرها.
قال * ع *: والأول أحسن الأقوالِ عِنْدِي، ورجَّح الطبريُّ القوْلَ بأن الطرفين الصُّبْح والمغرب، وهو قول ابن عبَّاس وغيره، وإِنه لظاهر، إِلا أن عموم الصلوات الخمْسِ بالآية أَولَى، والزّلَف: الساعاتُ القريبُ بعضُها من بَعْضٍ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات}، ذهب جمهورُ المتأوِّلين من صَحَابَةٍ وتابعينَ إِلى أن الحسناتِ يرادُ بها الصَلواتُ الخَمْسُ، وإِلى هذه الآية ذهَبَ عثْمانُ رضي اللَّه عنه في وضوئه على المَقَاعِدِ، وهو تأويلُ مالك، وقال مجاهد: {الحسنات}: قول الرجُلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، وَلاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ.
قال * ع *: وهذا كلُّه إِنما هو على جهة المِثَالِ في الحسنات، ومِنْ أجل أنَّ الصلواتِ الخمْسَ هي معظَمُ الأعمال، والذي يظهر أنَّ لفظ الآية عامٌّ في الحسنات، خاصٌّ في السيئات؛ بقوله عليه السلام: «مَا اجتنبت الكَبَائِرُ»، وروي أنَّ هذه الآية نزلَتْ في رجلٍ من الأنصار، وهو أبو اليُسْرِ بْنُ عَمْرو، وقيل: اسمه عَبَّاد، خَلاَ بامرأةٍ، فقَبَّلها، وتلذَّذ بها فيما دُونَ الجِمَاع، ثم جاء إِلى عُمَر، فشكا إِليه، فقال له: قَدْ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فاستر عَلَى نَفْسِكَ، فَقَلِقَ الرجُلُ، فجاء أبا بَكْر، فشكا إِليه، فقال له مثْلَ مقالةِ عُمَرَ، فَقَلِقَ الرجُلُ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى معه، ثم أخبره، وقال: اقض فيَّ ما شِئْتَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّهَا زَوْجَةُ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟!» قَالَ: نَعَمْ، فَوَبَّخَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «مَا أَدْرِي»، فنزلَتْ هذه الآية، فَدَعَاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَلاَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَهَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ فَقَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً».
قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: وهذا الحديثُ صحيحٌ، رواه الأئمةِ كلُّهم، انتهى.
قال * ع *: ورُوِيَ: أن الآية قدْ كَانَتْ نزلَتْ قبْلَ ذلك، واستعملها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الرَّجُل، وروي أنَّ عمر قال مَا حُكِيَ عن معاذٍ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «الجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَالصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا؛ إِنِ اجتنبت الكبائر». وقوله: {ذلك ذكرى}: إِشارة إِلى الصلوات، أي: هي سببُ الذكْرَى، وهي العظَةُ، ويحتملُ أنْ تكونَ إِشارةً إِلى الإِخبار بأن الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئَاتِ.
ويحتملُ أنْ تكون إِشارةً إِلى جميعِ ما تقدَّم من الأوامر والنواهِي والقَصَص في هذه السُّورة، وهو تفسيرُ الطبريُّ.

.تفسير الآيات (116- 119):

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ...} الآية، {لَوْلاَ}: هي التي للتحضيض، لكن، يقترن بها هنا مَعْنَى التفجُّع والتأسُّف الذي ينبغي أنْ يقع من البَشَر عَلَى هذه الأُمَمِ التي لم تَهْتِدِ، وهذا نحو قوله سبحانه: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30]، والقرون من قبلنا قومُ نوحٍ وعادٍ وثمود، ومَنْ تقدم ذكْرُهُ.
وقوله: {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ}: أي: أولو بقيةٍ مِنْ عقْلٍ وتمييزٍ ودينٍ، {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد} وإِنما قيل: {بَقِيَّةٍ}؛ لأن الشرائِعَ والدوَل ونَحْوَها، قوَّتُها في أولها، ثم لا تزال تَضْعُفُ، فمن ثَبَتَ في وقْتِ الضعْفِ، فهو بقيَّة الصدْرِ الأول.
و{الفساد فِي الأرض}: هو الكُفْر وما اقترن به من المعاصي، وهذه الآيةُ فيها تنبيهٌ لهذه الأُمَّةِ وحضٌّ على تغيير المُنْكَر، ثم استثنى عزَّ وجلَّ القوم الذين نَجَّاهم معَ أنبيائهم، وهم قليلٌ بالإِضافة إِلى جماعاتهم، و{قَلِيلاً} استثناء مُنْقطعٌ، أيْ: لكن قليلاً ممن أنجينا منهم، نَهَوْا عن الفساد، والمُتْرَف: المنعَّم الذي شغلَتْهُ تُرْفَتُهُ عن الحَقِّ حتى هلك؛ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} منه سبحانه وتعالى عن ذلك، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}: أي مؤمنة لا يَقَعُ منهم كُفْر؛ قاله قتادة، ولكنه عزَّ وجلَّ لم يشأْ ذلك، فهم لا يزالُونَ مختلفين في الأديان والآراءِ والمِلَلِ، هذا تأويل الجُمهورِ، {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}، أي: بأن هداه إِلى الإِيمان؛ وقوله تعالى: {ولذلك خَلَقَهُمْ}: قَالَ الحَسَن: أي: ولِلاختلافِ خلقهم.
قال * ع *: وذلك أن اللَّه تعالى خلق خَلْقاً للسعادة، وخَلْقاً للشقاوةِ، ثم يَسَّر كُلاًّ لما خلق له، وهذا نصٌّ في الحديث الصحيحِ، وجعل بَعْدُ ذلك الاختلاف في الدِّين على الحَقِّ هو أمارةَ الشقاوةِ، وبه علَّق العقابَ، فيصحُّ أَنْ يُحْمَلَ قولُ الحَسَن هنا: وللاختلافِ خَلَقُهُمْ، أي: لثمرة الاختلافِ، وما يكونُ عنه مِنْ شقاوةٍ أو سعادةٍ، وقال أشْهَبُ: سألتُ مالكاً عن هذه الآية، فقال: خَلَقَهُمْ؛ ليكونَ فريقٌ في الجنةِ، وفريقٌ في السعيرِ، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي: نفذ قضاؤه، وحَقَّ أمره، واللام في {لأَمْلأَنَّ}: لام قسم.

.تفسير الآيات (120- 123):

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
وقوله سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}، و{كُلاًّ} مفعولٌ مقدَّم ب {نَقُصُّ}، و{ما} بدلٌ من قوله: {وكُلاًّ}، و{نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: نؤنِّسك فيما تلْقَاه، ونجعل لك الإِسْوَة.
{وَجَاءَكَ فِي هذه الحق} قال الحسنُ: {هذه} إِشارة إِلى دار الدنيا، وقال ابن عباس: {هذه}، إِشارة إِلى السورة، وهو قولُ الجمهور.
قال * ع *: ووجه تخصيص هذه السُّورة بوَصْفها بحقٍّ، والقرآن كلُّه حق أنَّ ذلك يتضمَّن معنى الوعيد للكفَرَة، والتنبيهِ للنَّاظر، أي: جاءك في هذه السورة الحَقُّ الذي أصَابَ الأُمَم الماضيةَ، وهذا كما يقالُ عند الشدائدِ: جَاءَ الحَقُّ، وإِن كان الحَقُّ يأتي في غَيْر الشدائدِ، ثم وصَف سبحانَه أنَّ ما تضمَّنته السورةُ هو موعظةٌ وذكْرَى للمؤمنينَ.
وقوله سبحانه: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ...} الآية: آيةُ وعيدٍ.
وقوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض...} الآية: أية تعظيمٍ وانفراد بما لا حَظَّ لمخلوقِ فيهِ، ثم أمر سبحانه العَبْدَ بِعِبَادَتِهِ، والتوكُّلِ عليه، وفيهما زوالُ هَمِّهِ وصَلاَحُهُ، ووصُولُهُ إِلى رضوان اللَّه تعالى، فقال: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ}، اللَّهم، اجعلنا مِمَّن توكَّل عليك، ووفَّقْتَهُ لِعَبَادَتِكَ كما ترضَى، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً، والحمد لله على جزيلِ مَا بِهِ أَنْعَمَ.

.تفسير سورة يوسف عليه السلام:

هذه السورة مكية.
والسبب في نزولها أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة.
وقيل: سبب نزولها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعل أخوة يوسف بيوسف.
وسورة يوسف لم يتكرر من معانيها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء، ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول.
وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه لو كرر لفترت فصاحتها.

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}
وقولهُ عزَّ وجلَّ: {الر تِلْكَ آيات الكتاب المبين} {الكتاب}؛ هنا القرآن، ووصفه ب {المبين} من جهة بيان أحكامه وحَلاَله وحرامِهِ ومَواعِظِهِ وهُدَاهُ ونُوره، ومِنْ جهة بيانِ اللسانِ العربيِّ وجودَتِهِ، والضميرُ في {أنزلناه}: للكتاب، و{قُرْآناً} حالٌ، و{عَرَبِيّاً}: صفةٌ له، وقيل: {قُرْآناً}: توطئةٌ للحال، و{عَرَبِيّاً} حالٌ.
وقوله سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص...} الآية: روى ابن مسعودٍ، أنَّ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَلُّوا مَلَّةً، فقالوا: لَوْ قَصَصْتَ علينا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ، ثم مَلُّوا ملَّةً أخْرَى، فقالوا: لَوْ حَدَّثْتَنَا، يَا رَسُولَ اللَّه، فنزلَتِ: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها} [الزمر: 23] {والقصص}: الإخبار بما جَرَى من الأمور.
وقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: أي: بوحينا إِليك هذا، و{القرآن}: نعت ل هذا ويجوز فيه البَدَلُ، والضمير في قبله: للقصص العامِّ؛ لما في جميع القرآن منه، و{مِنَ الغافلين}، أي: عن معرفة هذا القصص، وعبارةُ المَهْدَوِيِّ: قال قتادة: أي: نقصُّ عليك من الكُتُب الماضيةِ، وأخبارِ الأممِ السالفةِ أحْسَنَ القصص؛ بوحينا إِليك هذا القرآن، {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} عنْ أخبار الأمم، انتهى.

.تفسير الآيات (4- 6):

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}
وقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}: قيل: إِنه رأَى كواكِبَ حقيقةً، والشمْسَ والقَمَرَ، فتأوَّلها يعقوبُ إِخْوَتَهُ وأَبَوَيْهِ، وهذا هو قولُ الجمهور، وقيل: الإِخوةُ والأَبُ والخالةُ؛ لأَنَّ أُمَّه كانتْ ميِّتة، وروي أن رُؤْيَا يوسُفَ خَرَجَتْ بَعْدَ أربعينَ سَنَةً، وقيل: بعد ثمانينَ سَنَةً.
وقوله: {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} مِنْ هنا ومِنْ فعْل إِخوة يوسُفَ بيوسُفَ: يظهر أنَّهم لم يكُونوا أَنبياءَ في ذلك الوقْتِ، وما وَقَعَ في كتاب الطَّبريِّ لابْنِ زَيْد؛ أنهم كانُوا أنبياءَ يردُّه القطْعُ بعصمة الأنبياءِ عن الحَسَدِ الدنيوي، وعن عقوقِ الآباءِ، وتعريض مؤمنٍ للهلاكِ، والتآمرِ في قتله.
{وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}: أي: يختارُكَ ويصطفيك.
{وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} قال مجاهد وغيره: هي عبارةُ الرؤيا وقال الحسن: هي عواقِبُ الأمور وقيل: هي عامَّة لذلك وغيره من المغيَّبات.
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ...} الآية: يريد بالنبوَّة وما انضاف إِلَيْها من سائر النِّعَم، ويروَى: أَنَّ يعقُوبَ عَلِمَ هَذا مِنْ دَعْوَة إِسْحَاقَ لَهُ حِينَ تشبَّه ب عِيصُو، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (7- 10):

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)}
وقوله سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيات لِّلسَّائِلِينَ}؛ إِذ كلُّ أحد ينبغي أنْ يسأل عن مثْلِ هذا القصص، إِذ هي مَقَرُّ العبر والاتعاظ؛ وقولهم: {وَأَخُوهُ}: يريدون به يَامينَ، وهو أصغر من يوسُفَ، ويقال له: بِنْيَامِينُ قيلَ: وهو شقيقه، {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}: أي: لصغرهما ومَوْتِ أُمهما، وهذا مِنْ حُبِّ الصغير هي فطرةُ البَشَر، وقولهم: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}: أي: جماعة تضرُّ وتنفعُ، وتحمِي وتخذل، أي: لنا كَانَتْ تنبغي المحبَّة والمراعاةُ، والعُصْبَة في اللغة: الجماعةُ، وقولهم: {لَفِي ضلال مُّبِينٍ}، أي: لفي انتلافٍ وخطإٍ في محبَّة يوسُفَ وأخيه، وهذا هو معنى الضَّلال، وإِنما يصغر قَدْرُهُ، ويعظُم بحَسَبِ الشَّيء الذي فيه يَقَعُ الانتلافُ، و{مُّبِينٍ}: معناه: ظاهر للمتأمِّل، وقولهم: {أَوِ اطرحوه أَرْضًا}: أي: بأرضٍ بعيدةٍ؛ ف {أَرْضاً} مفعولٌ ثانٍ بإِسقاط حرف الجرِّ، والضمير في {بعده} عائدٌ على يوسُفَ، أو قتلِه، أو طرحِهِ، {وصَالِحِينَ}: قال مقاتل وغيره: إِنهم أرادوا صلاَحَ الحالِ عنْد أبيهم، والقَائِلُ منهم: {لا تقتلوه} هو: رُوبِيلُ أسنُّهم؛ قاله قتادة وابنُ إِسحاق، وقيل: هو شَمْعُونٌ؛ قاله مجاهد، وهذا عطْفٌ منه على أخيه لا محالَةَ؛ لما أراد اللَّه من إِنفاذ قضائه، والغيابة: ما غاب عنك، و{الجب} البئر التي لم تُطْوَ؛ لأنها جُبَّتْ من الأرض فقَطْ، قال المَهْدَوِيُّ: والجُبُّ؛ في اللغة: البئر المقطوعة التي لم تُطْوَ، انتهى. وال {سَّيَّارَةِ}: جمعُ سَيَّارٍ، وروي أن جماعةً من الأَعرابِ التقطت يوسُفَ عليه السلام.

.تفسير الآيات (11- 15):

{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}
وقوله سبحانه: {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لناصحون...} الآية المتقدِّمة تقتضي أن أباهم قد كان عَلِمَ منهم إِرادتهم السُّوءَ في جهة يوسُفَ، وهذه الآية تقتضِي أنهم علموا هُمْ منه بعلمه ذلك، وقرأ أبو عامر وابنُ عمرو: {نَرْتَعْ ونَلْعَبْ}- بالنون فيهما وإِسكانِ العينِ والباءِ-، و{نَرْتَع}؛ على هذا: من الرُّتُوعِ، وهي الإِقامة في الخِصْب والمَرعَى في أكْلٍ وشربٍ، وقرأ ابن كثير: {نَرْتَعِ ونَلْعَبْ}- بالنونِ فيهما وكَسْرِ العين وإسكان الباء-، وقد رُوِيَ عنه {ويَلْعَبْ}- بالياء- و{نَرْتَعَ}- على هذا: من رِعَاية الإِبَل. وقال مجاهد: من المُرَاعاة، أي: يرعَى بعضُنا بعضاً، ويحرسُه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {يرتَع وَيَلْعَبْ} بإِسناد ذلك كلِّه إِلى يوسف، وقرأ نافع {يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ}، ف {يَرْتَعِ}؛ على هذا: من رعاية الإِبل، قال أبو علي: وقراءة ابنِ كثيرٍ {نَرْتَعَ}- بالنون- و{يَلْعَبْ}- بالياء-: منزعها حَسَنٌ؛ لإِسناد النظر في المال، والرعايةِ إِليهم، واللعب إِلى يوسف لصباه، ولعبُهُمْ هذا داخلٌ في اللعبِ المباحِ والمندوبِ كاللعب بالخيلِ والرمْي؛ وعلَّلوا طلبه والخروجَ به بما يمكنُ أنْ يَستَهوِيَ يوسُفَ لصبَاه مِنَ الرتوعِ واللعِبِ والنَّشَاطِ، وإِنما خافَ يعقُوبُ عليه السلام الذئبَ دون سواه، وخصَّصه؛ لأنه كَانَ الحيوانَ العَادِيَ المنبَثَّ في القُطْر، ولصغَرِ يوسُفَ، و{أَجْمَعُواْ}: معناه: عَزَموا.
وقوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} يحتمل أن يكون الوحْيُ إِلى يوسُفُ حينئذٍ برسولٍ، ويحتملُ أنْ يكون بإِلهامٍ أو بنومٍ، وكلُّ ذلك قد قيل، وقرأ الجمهور: {لَتُنَبِّئَنَّهُمُ} بالتاء من فوق.
وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}: قال ابن جُرَيْج: معناه: لا يشعُرُونَ وقْتَ التنبئةِ؛ أنَّكَ يوسف، وقال قتادة: لا يشعرُونَ بوَحْينا إِليك.